انتصار للمنطق أم انتكاسة للحقوق؟.. حكم بريطاني تاريخي لصالح الجنس البيولوجي

انتصار للمنطق أم انتكاسة للحقوق؟.. حكم بريطاني تاريخي لصالح الجنس البيولوجي
نشطاء حملة "من أجل النساء في اسكتلندا"

في حكمٍ وصفته الصحف البريطانية العريقة بأنه "تاريخي"، أصدرت المحكمة العليا في المملكة المتحدة قرارًا يقضي بعدم اعتبار النساء المتحولات جنسيًا نساءً قانونيًا، منهية بذلك سنوات من الجدل القانوني والحقوقي قادته منظمة "من أجل نساء اسكتلندا" (For Women Scotland)، التي تُعرف بدفاعها الصريح عن حقوق المرأة وفق مفهوم الجنس البيولوجي.

القرار، الذي صدر وسط ترقب واسع، أعاد إشعال الجدل حول الهوية الجندرية وحقوق الأفراد المتحولين جنسيًا، وانقسمت الآراء بشأنه بين من اعتبره انتكاسة خطيرة للنسوية الشاملة، وبين من رآه انتصارًا للتشريعات الواضحة وحماية للحقوق النسائية الأصيلة.

في حديثهم لـ"جسور بوست"، أعرب خبراء وناشطون حقوقيون عن تباين مواقفهم حيال الحكم، إذ اعتبرته بعض الأصوات النسوية "تراجعًا مقلقًا" عن مفاهيم العدالة الشاملة، مشيرين إلى أن "الدفاع عن حقوق النساء لا يعني إقصاء العابرات، أو تحويل النسوية إلى شرطة بيولوجيا".

في المقابل، يرى معنيون بالشأن الأوروبي أن الحكم يمثل خطوة ضرورية نحو إعادة التوازن في النقاش حول الهوية الجندرية، مؤكدين أن الهدف ليس إقصاء المتحولين جنسيًا، بل ضمان حماية الفئات التي جاءت التشريعات من أجلها، وعلى رأسها النساء البيولوجيات اللاتي ناضلن طويلًا من أجل تمثيل عادل في مؤسسات الدولة.

وشدد هؤلاء على أن القرار لا يغلق الباب أمام المتحولين جنسيًا، بل يحافظ على مكانتهم وحقوقهم، فيما يقود أوروبا تدريجيًا نحو قوانين أكثر تحفظًا وتماسكًا في مسألة النوع الاجتماعي.

حكم تاريخي

وأعلنت المحكمة العليا في المملكة المتحدة، الأربعاء، حكمها الذي وصفته صحيفة “The Telegraph” بـ"التاريخي"، مؤكدة أن النساء المتحولات جنسيًا لا يُعتبرن نساءً قانونيًا.. وقد رحّبت الحكومة البريطانية بالحكم، مشيدة بوضوحه.

وأكد نائب رئيس المحكمة العليا، اللورد باتريك هودج، أن المحكمة رأت بإجماع أعضائها أن مصطلحي "المرأة" و"الجنس" في قانون المساواة لعام 2010 يشيران إلى الجنس البيولوجي وليس المكتسب، وأضاف في معرض توضيحه: "ننصح بعدم اعتبار هذا الحكم انتصارًا لفئة على حساب فئة أخرى في مجتمعنا، إنه ليس كذلك".

وقد أوردت المحكمة في حكمها، المكوّن من 88 صفحة، أن “مفهوم الجنس بموجب قانون المساواة هو ثنائي”، وفي توضيح لاحق، قال متحدث باسم المحكمة: "هذا الحكم يمنح الوضوح والثقة للنساء ومقدمي الخدمات، من مستشفيات وملاجئ وأندية رياضية، فالمساحات المخصصة لجنس معين محمية قانونًا، وستظل محمية دائمًا من قبل هذه الحكومة".

مع ذلك، أكدت المحكمة أن قرارها لا ينتقص من الحماية القانونية التي يتمتع بها المتحولون جنسيًا ضد التمييز، موضحة أن "الرجل الذي يحدد هويته كامرأة ويُعامل معاملة أقل تفضيلاً بسبب ذلك، لا يزال بإمكانه التقدم بشكوى قانونية عن التمييز المباشر على أساس الجنس".

تاريخ النزاع

بدأ النزاع في عام 2018 حين طعنت حملة "من أجل نساء اسكتلندا" في توجيهات الحكومة الاسكتلندية، التي رافقت قانونًا يهدف إلى زيادة تمثيل النساء في مجالس إدارات القطاع العام، ورأت الحملة أن الحقوق بموجب قانون المساواة يجب أن تُمنح بناءً على الجنس البيولوجي فقط، وليس على أساس الهوية الجندرية أو التحول الجنسي.

ورغم أن الحكومة الاسكتلندية كانت قد أكدت حينها أن المرأة المتحولة جنسيًا الحاصلة على شهادة الاعتراف بالجنس تُعد قانونيًا امرأة، فإن الحملة خسرت في البداية أمام المحاكم الاسكتلندية.

وفي نوفمبر الماضي، استأنفت الحملة أمام المحكمة العليا البريطانية، التي أصدرت قرارها مؤخرًا وسط هتافات تأييد خارج مبنى المحكمة، واعتبرته كثير من الناشطات "انتصارًا للمنطق القانوني السليم".

وقوبل الحكم الصادر عن المحكمة العليا البريطانية بترحيب واسع من جانب ناشطات حملة "من أجل نساء اسكتلندا"، حيث تداولت وسائل إعلام غربية، بينها “رويترز” و"الغارديان"، مشاهد توثق لحظات العناق والدموع التي تبادلها الحضور أمام المحكمة، واصفين هذا اليوم بأنه "عظيم". وقد أشادت المنظمة بالحكم، معتبرة إياه "انتصارًا للعقل والمنطق السليم".

كذلك، أعربت كيمي بادينوخ، زعيمة المعارضة المحافظة، عن دعمها للقرار، وقالت بلهجة حاسمة: "القول إن النساء المتحولات جنسياً هن نساء، لم يكن يومًا صحيحًا من الناحية الواقعية، ولم يعد صحيحًا الآن من الناحية القانونية".

مخاوف من التمييز 

في المقابل، حذّر ناشطون في مجال حقوق المتحولين جنسيًا من عواقب وخيمة للقرار، واعتبروا أن منح الأفضلية للجنس البيولوجي قد يؤدي إلى تمييز ممنهج، خاصة تجاه الحاصلين على شهادات الاعتراف بالجنس، لا سيما في بيئة العمل، بحسب رويترز.

ورأت صحيفة “الغارديان” أن القرار يمثل جدلًا عميقًا في تعريف المرأة، إذ اختار المقاربة التقليدية التي تستند إلى الجنس البيولوجي، واعتبرته "مجحفًا" بحق المتحولين جنسيا.

من جانبها، وصفت “فرانس 24” الحكم بأنه حساس للغاية، مُحذرة من أن عواقبه قد تكون كبيرة على النساء المتحولات جنسياً في بريطانيا، أما منظمة العفو الدولية، فقد انتقدت الحكم بشدة، وقالت إنه يمثل "تهديدًا واضحًا لحقوق المتحولين جنسيًا"، ويعزز احتمالات تصاعد التمييز ضدهم، وفق ما نقلته وسائل إعلام غربية.

في تعليقها لـ"جسور بوست"، اعتبرت الناشطة الحقوقية والخبيرة في قضايا المرأة، انتصار السعيد، أن الحكم يمثل "تراجعًا مقلقًا عن رؤية نسوية شاملة وعادلة"، مشيرة إلى أنه حتى من منظور النسوية الراديكالية، فإن اختزال النضال النسوي في "الجسد البيولوجي" يُعد تقليصًا خطيرا.

وقالت السعيد: "النظام الأبوي لا يقمع النساء فقط، بل كل من يخرج عن نموذج الرجولة السائدة، ومن بينهم العابرات جنسيًا، اللواتي يعانين من عنف، وتحرش، وتمييز، وتهميش في المجال العام".

وأضافت أن إقصاء العابرات من فئة "النساء" هو في جوهره إعادة إنتاج للنظام الأبوي نفسه، الذي يرسم حدودًا ضيقة لـ"الأنوثة المقبولة" ويستخدم الجسد كأداة للضبط والسيطرة.

وأكدت أن: "النسوية ليست مطالبة بالاختيار بين النساء والعابرات، بل هي مطالبة بتوجيه النضال ضد الجذر الحقيقي للظلم: النظام الأبوي الذي يقمع الجميع بأدوات مختلفة".

وختمت السعيد حديثها بتحذير من تحويل النسوية إلى "شرطة بيولوجيا"، مؤكدة أن "الحكم يكرّس منطقًا بيولوجيًا ضيقًا، ويمنح الدولة سلطة خطيرة في تحديد من يحق له أن يُعتبر امرأة".

مقاربة أوروبية

في المقابل، ترى الدكتورة جيهان جادو، الخبيرة في الشأن الأوروبي، أن الحكم يُمثل خطوة قانونية صائبة جاءت بعد سنوات من الجدل في المملكة المتحدة حول تعريف المرأة.

وفي حديثها لـ"جسور بوست"، أوضحت جادو أن: "الاعتماد على الجنس البيولوجي كمعيار قانوني هو أمر حاسم، لأنه يحفظ تماسك التشريعات الاجتماعية، ويحدّ من التسيّب المفاهيمي الذي قد يخل بأسس الدولة الحديثة".

وأضافت أن القرار قد يثير غضب منظمات الدفاع عن المتحولين جنسيًا، لكنه يعكس توجهًا أوروبيًا عامًا نحو سياسات أكثر تحفظًا، خصوصًا في ما يتعلق بحماية كيان الأسرة ومعالجة قضايا النسل والانتماء الجندري.

وختمت جادو بالإشارة إلى أن: "أوروبا تتحرك تدريجيًا نحو إعادة ضبط مفاهيم النوع الاجتماعي، بما يحقق التوازن بين الحقوق الفردية وحماية النسيج المجتمعي".

حماية لا إنكار 

يرى الدكتور ديمتري بريجع، الخبير في الشؤون الأوروبية، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن الحفاظ على مفهوم الجنس البيولوجي كما وُلد عليه الإنسان هو ضرورة قانونية وأخلاقية لضمان وضوح التشريعات وحماية الحقوق القائمة على أسس ثابتة وطبيعية.

ويعتبر بريجع أن القرار الصادر عن المحكمة العليا البريطانية، والذي يربط تعريف المرأة بالجنس البيولوجي، "يشكل محطة مفصلية نحو استعادة التوازن في النقاش المحتدم حول الهوية الجندرية"، والتي يرى أنها تُستغل أحيانًا لإعادة تشكيل مفاهيم جوهرية قد تهدد المنظومة القيمية والاجتماعية التقليدية.

وأكد أن التمسك بالقانون القائم على الفروق البيولوجية لا يعني بأي حال من الأحوال إقصاء أو إنكار وجود المتحولين جنسيًا، بل هو محاولة لضمان حماية الفئات التي صيغت هذه القوانين بالأساس لأجلها، وعلى رأسها النساء اللاتي ناضلن لسنوات من أجل تحقيق التمثيل والعدالة في مؤسسات الدولة.

وشدد بريجع على أن "إدماج مفاهيم متغيرة وذات طابع شخصي، مثل الهوية الجندرية، في نصوص قانونية ملزمة، يُهدد بإضعاف المكتسبات القانونية، ويخلق ثغرات يصعب ضبطها أو التنبؤ بتداعياتها".

وختم بتأكيده على أن الدفاع عن الجنس البيولوجي "ليس موقفًا رجعيًا، بل هو تأكيد على أن العدالة لا تُبنى بتجاهل الواقع البيولوجي، بل من خلال احترام حدود الطبيعة، وحماية التنوع داخل أطر قانونية واضحة تحفظ الاستقرار المجتمعي وتضمن الإنصاف للجميع".

وجهة نظر فرنسية

أما الخبير الفرنسي في الشأن الأوروبي، بيير-لويس ريموند، فقد وصف في حديثه لـ"جسور بوست" القرار بأنه "متوازن ومسؤول"، مشيرًا إلى أنه انحاز للجنس البيولوجي دون أن يُقصي المتحولين جنسيًا، بل شدد على ضرورة احترام وجودهم ومكانتهم داخل المجتمع.

وأضاف ريموند: "القضية معقدة وحساسة للغاية، لكن الحكم لم يُغلق الباب أمام الحريات الشخصية، بل سعى لترسيخ قواعد قانونية واضحة، تحترم في الوقت ذاته الاختيارات الفردية".

كما شدد على أن مستقبل هذا الحكم سيعتمد على كيفية تطبيقه عمليًا، وضمان ألا يُستخدم كذريعة لانتهاك الحريات أو التمييز، بل كمرجعية تشريعية تنظم العلاقة بين الهوية الذاتية والتشريعات العامة.

ورغم إثارة الجدل بالحكم البريطاني التاريخي والذي يعكس عمق الانقسام في الرؤى حول تعريف "المرأة"، يرى البعض القرار خطوة نحو حماية مكتسبات النساء، فيما يعتبره آخرون انتكاسة لحقوق المتحولين، وبين هذا وذاك، يبقى التحدي الأكبر في تحقيق توازن يحفظ الكرامة والعدالة للجميع.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية